(14 نوفمبر 2023)
شهد السودان تطورات كبيرة على المستوى السياسي والإنساني خلال الشهرين الماضيين. وعلى وجه الخصوص خلال الأسابيع القليلة الماضية حيث تركزت حركة قوات الدعم السريع على إقليم دارفور، بهدف إستخدام هذا الإقليم كقاعدة عسكرية إستراتيجية يمكن من خلالها إحداث تغيير في موازين القوى عسكرياً وسياسياً.
أعلنت قوات الدعم السريع، في 28 أكتوبر 2023، سيطرتها على مدينة نيالا بولاية جنوب دارفور، وذلك بعد إنسحاب قوات الفرقة 16 التابعة للجيش السوداني من المدينة. وعليه، قام قائد قوات الدعم السريع بتعيين قيادة للشرطة، ودعا المحاكم والنيابة العامة إلى مواصلة عملها القانوني حسب الروتين اليومي المعتاد. في وقت لا تزال تعاني فيه مدينة نيالا من الهشاشة الأمنية ، حيث قُتل ثلاثة أشخاص في حي الخرطوم برصاص مسلحين في 5 نوفمبر 2023، فيما تفوح رائحة كريهة من الجثث المتحللة داخل السوق الكبير في نيالا. وقد تناثرت أشلاء المقاتلين من الطرفين حول قيادة فرقة الجيش، بالإضافة إلى الضحايا المدنيين نتيجة المواجهات المسلحة .
في ذات السياق، أعلنت قوات الدعم السريع، في 4 نوفمبر 2023، سيطرتها على الفرقة 15 التابعة للجيش السوداني في مدينة الجنينة بولاية غرب دارفور. وكما هو الحال في مدينة نيالا، دعا قائد الدعم السريع عبدالرحيم دقلو، المؤسسات الشرطية والقضائية إلى القيام بواجباتها كالمعتاد. ودعا التجار إلى إعادة فتح متاجرهم، كما ناشد المنظمات الإنسانية تقديم المساعدة للمواطنين. وأعلن تعيين اللواء عبد الرحمن جمعة ، وهوأحد الخاضعين للعقوبات الأمريكية قائداً للفرقة 15 للجيش بمدينة الجنينة، بالإضافة إلى استمرار والي الولاية المكلف في أداء مهامه.
وقد شهدت مدينة الجنينة التي تعاني أيضاً من التفلتات الأمنية، مقتل الفرشة محمد أرباب، أحد أعمدة الإدارة الأهلية لقبيلة المساليت بغرب دارفور، وتوجهت أصابع الإتهام للدعم السريع بارتكاب الجريمة. وفي 4 نوفمبر، أُغتيل أحد رجال الإدارة الأهلية مع ابنه وثمانية من أحفاده بعد إقتحام قوات الدعم السريع لمنازل المواطنين بمحلية أردمتا.
وفي ولاية وسط دارفور، داهمت مليشيات مسلحة، الثلاثاء 31 أكتوبر 2023، معسكر الحصاحيصا للنازحين بمدينة زالنجي بعد سيطرة قوات الدعم السريع على مقر الفرقة 21 التابعة للجيش بمدينة زالنجي. وقد كشف بعض الناشطين الحقوقيين عن مقتل العشرات ووقوع 24 حالة اغتصاب في معسكر الحصاحيصا للنازحين خلال هجمات متكررة منذ الأول من أكتوبر الماضي، مع تزايد عمليات النهب والحرق والاعتداءات. كما أشار الناشطون إلى أن عدداً كبيراً من سكان المخيم نزحوا إلى مناطق سرف عمرة بسبب الهجوم، وبعضهم إلى مدينة زالنجي ومعسكر الحميدية، فيما لم يعرف مصير عدد كبير من الأسر. وكانت قوات الدعم السريع قد فرضت حصارا مشددا على معسكر الحصاحيصا منذ أسابيع بحجة حصول عناصر الجيش على الغذاء والماء من المعسكر، وقد رُفع الحصار جزئيا عن المعسكر يوم الثلاثاء 31 أكتوبر، وذلك بالتزامن مع سيطرة الدعم السريع على مقر الفرقة 21 التابعة للجيش السوداني.
وبسيطرة الدعم السريع على إقليم دارفور، بالإضافة إلى موارد الذهب الذي تقع معظم مناجمه تحت سيطرته، أصبح يتمتع بموارد ولاية جنوب دارفور الأخرى مثل الصمغ العربي، والثروة الحيوانية الهائلة بالولاية. أما على المستوى السياسي، فإن الدعم السريع يكون قد بسط يده على مساحة جغرافية واسعة في دارفور، بالإضافة للموارد المالية والدعم القبلي من المجموعات المتجانسة معه عرقيا، علاوة على العلاقات مع منطقة الساحل الأفريقي، مما يوفر له أشكالاً متعددة من الدعم.
على ضؤ هذه المتغيرات ربما يكون موقف الدعم السريع التفاوضي أكثر قوة على المستوى السياسي مما مضى، حيث يؤدي ذلك إلى تعديل موازين القوى في منبر جدة التفاوضي تحت الوساطة الامريكية – السعودية.
ربما قادت هذه التطورات إلى إطالة أمد المفاوضات من أجل وقف دائم لإطلاق النار ، إذ رأينا أن طرفي الحرب في السودان استأنفا الجولة الجديدة من المفاوضات يوم الخميس 2 نوفمبر في مدينة جدة السعودية، في ظل تصعيد للاعمال العسكرية وتكثيف القصف المدفعي بين الجيش وقوات الدعم السريع. وقد أفاد بعض الناشطين أن (عدداً من المناطق شمال مدينة أم درمان تعرضت لقصف مدفعي شديد، عبر قذائف أطلقت من مواقع تواجد قوات الدعم السريع في منطقة بحري).
في أثناء تزايد نشاط قوات الدعم السريع في دارفور خلال الأسابيع القليلة الماضية، كثف الجيش السوداني قصفه الجوي واستهدف مراكز تجمع “الدعم السريع” في عدة مواقع بمدن العاصمة الثلاث “الخرطوم، بحري، وأم درمان” ورغم التصعيد العسكري والسياسي، أعلن الجيش السوداني الأسبوع الماضي أنه تلقى دعوة لاستئناف مفاوضات “جدة”، مؤكدا مشاركة وفده في الإجتماعات، كما فعلت قيادات قوات الدعم السريع. في وقت دعت فيه “قوى الحرية والتغيير” إلى توحيد المبادرات الإقليمية المطروحة لحل الأزمة في السودان، لدعم مسار “منبر جدة” باعتباره “الخيار الوحيد” المتاح لطرفي القتال لوقف الحرب.
وفي 29 أكتوبر الماضي، صدر بيان مشترك عن المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية والهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد) مع الاتحاد الأفريقي، بشأن جولة جديدة من المحادثات بين الطرفين (القوات المسلحة والقوات المسلحة و قوات الدعم السريع)، حيث حصر “الميسرون” بنود التفاوض في ثلاثة محاور؛تسهيل إيصال المساعدات الإنسانية وتحقيق وقف إطلاق النار وإجراءات بناء الثقة مع إمكانية تحقيق وقف دائم للأعمال العدائية، وعدم تناول أياً من القضايا ذات الطبيعة السياسية خلال مرحلة بناء الثقة.
وفي 7 نوفمبر، أُختتمت الجولة الأخيرة من محادثات جدة بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، دون أن تتقدم المحادثات خطوة واحدة نحو وقف إطلاق النار لفترة طويلة أو قصيرة.
وأشار بيان وزارة الخارجية السعودية حول المحادثات إلى إلتزام طرفي القتال بتسهيل مرور المساعدات الإنسانية إلى المدنيين المحاصرين بسبب القتال. إلا أن هذا الالتزام ما هو إلا تكرار لما تم التوقيع عليه قبل ستة أشهر في اتفاق جدة في 11 مايو الماضي، والذي تضمن سبعة بنود ركزت على تسهيل إيصال المساعدات الإنسانية للمدنيين وحمايتهم، كما ركزت على اتفاق الطرفين بالالتزام بالقانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان.
ما من شك أن البيان السابق ذكره أشار إلى أن الطرفين إتفقا على الإنخراط في آلية إنسانية مشتركة بقيادة مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية من أجل معالجة العقبات التي تعترض إيصال المساعدات الإغاثية، تحديد نقاط اتصال لتسهيل عملية تسليم المساعدات وحركة العاملين في المجال الإنساني ، وإنشاء آلية تواصل بين طرفي الحرب، لكن كل ذلك سيكون من الصعب تحقيقه على الأرض، في ظل عدم وقف لإطلاق النار وتزايد حدة المعارك، وفي غياب الآليات المعروفة دولياً لإنشاء ممرات آمنة ومحمية لتسهيل وصول المساعدات الإنسانية إلى المدنيين.
وقد شهدت الأيام القليلة الماضية أيضاً تحركات في أروقة الاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد) حيث جرت خلالها العديد من المشاورات مع مختلف الكتل السياسية السودانية في العاصمة المصرية القاهرة، وفق رؤية جديدة للأمم المتحدة من أجل القيام بعملية سياسية شاملة لا تتقاطع مع مسار المفاوضات في جدة، أو على الأقل كما وصفها المسؤولون بأنها تحركات موازية.
وعلى الرغم من تكامل أو تقاطع كل هذه المبادرات السياسية على المستوى الوطني والإقليمي والدولي لحل الأزمة في السودان، فإن ما يهم المدنيين، وخاصة في إقليم دارفور، هو تفادي آثار الحرب والتخفيف من تداعياتها المدمرة، وهي غاية لا يمكن تحققها إلا من خلال وقف دائم للاعمال العدائية وفتح مسارات آمنة من أجل ايصال المساعدات الانسانية وتمهيد الطريق لعملية سلام شاملة تٌأمن عودة المدنيين النازحين الى ديارهم مع العمل على إستعادة مسار الدولة المدنية والتحول الديمقراطي.
مساعد محمد علي
المدير التنفيذي
للمركز الأفريقي للعدالة ودراسات السلام