الأحد , ديسمبر 22 2024
enar
IMG_1770

هل الدفع بالجنون يصد الطريق أمام مقاومة القوانين التي تنتهك الحريات؟

By Tayfor Elamin, ACJPS

تناقلت بعض الصحف الالكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي خبر الناشط محمد صالح الدسوقي عبدالباقي الملقب بـ(الباروني) 23 سنة، خبر طلبه بتغيير ديانته فيمستنداته الرسمية. بتاريخ 7 مايو 2017م تقديم الباروني لعريضة امام محكمة الأحوال الشخصية بأمدرمان وسط مطالباً فيها بتغيير ديانته من مسلم إلى لاديني إلا أن المحكمة رفضت طلبه. وبتاريخ 8 مايو 2017م تقدم الباروني بطلب آخر لوكيل نيابة امبدة وسط مطالباً تغيير ديانته، ووجهت النيابة بفتح بلاغ ضده بالرقم (2017/671) تحت المواد (126/69) الردة/والاخلال بالسلامة العامة من القانون الجنائي السوداني لسنة 1991م، وتم وضع الباروني في الحبس على الفور.

وبتاريخ 11 مايو 2017م شطبت النيابة العامة اجراءات الدعوى رقم (2017/671) الموجه ضد محمد صالح عبدالباقي الدسوقي (الباروني) وجاء بناءً على تقرير الطبيب النفسي، وعرضت النيابة المتهم على مستشار الطب النفسي والعصبي من دون طلب الدفاع أو المتهم، وقالت النيابة أن التقرير الطبي أكد أن الباروني في وضع صحي غير ملائم مما أثر على قدرته النفسية والعصبية، واوصى الطبيب باخراجه من الحبس وادراجه للمتابعة في برنامج الارشاد النفسي، وبناءً عليه واستناداً على المادة 8 من القانون الجنائي السوداني لسنة 1991م قررت النيابة العامة شطب الدعوى الجنائية في مواجهة الباروني وأخلاء سبيله فوراً وتسليمه الى ذويه لمتابعة العلاج مع الطبيب النفسي، وتم اطلاق سراحه بتاريخ 11 مايو 2017م.

تنص المادة 126 من القانون الجنائي السوداني لسنة 1991م التي تعرف بحد الردة: 1- يعد مرتكب جريمة الردة كل مسلم يروج للخروج من ملة الاسلام أو يجاهر بالخروج عن الاسلام بقول صريح أو بفعل قاطع الدلالة. 2- يستتاب من يرتكب جريمة الردة ويمهل مدة تقررها المحكمة، فاذا أصر على ردته ولم يكن حديث عهد بالاسلام، يعاقب بالإعدام. 3- تسقط عقوبة الردة متى عدل المرتد قبل التنفيذ.

تتناقض المادة 126 من القانون الجنائي مع الدستور السوداني المادة 38 التي تكفل الحق الانساني وتنص المادة 38 على (لكل إنسان الحق في حرية العقيدة الدينية والعبادة، وله الحق في أعلان دينه أو عقيدته أو التعبير عنها عن طريق العبادة والتعلم والممارسة أو أداء الشعائر أو الاحتفالات وفق ما يتطلبه القانون والنظام العام، ولا يُكره أحد على أعتناق دين لا يؤمن به أو ممارسة الطقوس أو شعائر لا يقبل بها طوعية). ومن جانب آخر يتناقض مع البند 18 للميثاق الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966م.

أحدثت خطوة الباروني بمطالبته لتغيير ديانته في سجله المدني ردود فعل واسعة وسط النشطاء وقوى المجتمع المدني والسياسي برغم الاختلاف حول ما اذا كانت خطوة موفقه ذات هدف واضح أو أنه يريد الشهره وغيره من الآراء، ونقلت الصحف هذا الخبر بدوافع مختلفة من دون التركيز في نشر الخبر بطريقة مهنية حتى يساهم في حفظ الحقوق واعطاء الحادثة القيمة الحقيقة حتى تساهم في قضايا التغيير خصوصاً أن دافع الباروني في اختيار هذه الخطوة الذكية والشجاعة التي تمت بوعى تام منه هو فتح ملف الحقوق المدنية والسياسية.

وفي حوار صحفي أجرته الصحفية أمل هباني ونشرته صحيفة التعيير الالكترونية قال الباروني أنه أثار سؤال الحريات على صفحته في الفيسبوك، واتخذ خطوة المحكمة لاختبار النظام، واضاف أنه يجب أن يتم إلغاء المادة 126 الردة، “وبناءً على ذلك قررت أن اختبر النظام واواجه سلطتهم حتي يجيب النظام لماذا توجد مادة تخالف الدستور السوداني والميثاق العالمي لحقوق الانسان، وأنا لم اقصد التعبير عن الحادي بل كنت اريد تحدي المادة 126، وكنت متخيل أن تصل القضية حتى موضوع الاستتابة ويتم فيها حكم، وانا سوف اتمسك باقوالى حتى تصل المحكمة الدستورية باعتبارها جهة الاختصاص لتغيير المادة 126 والغاءها، لكنهم فاجؤنى”.

لم يقل الباروني أنه غيردينه ولكن قال أنه اراد تغيير ديانته في السجل المدني، وحتى لو كان قصده هو تغيير ديانته من حقه أن يقوم بتلك الخطوة، لأن هذا يعتبر حق انساني ودستوري كفله الدستور، وقاوم الباروني باشجع واذكي خطوة عملية وفعالة في مواجهة سلطة الدولة الاسلامية التي تكذب وتنافق، بل كان اختبار لكشف زيف النظام في جديتهم حول تعديل القوانين المتناقضة مع الدستور، إلا أن النظام يعلم تماماً هذا التناقض، وليس لديهم رغبة في تعديلها، فقط يريدون خداع الشعب السوداني من جهة والمجتمع الدولى من جهة اخرى حتى يحافظوا على كرسي السلطة.

بدأت النيابة بكذبتها الكبيرة عن طريق تلفيق تهمة الجنون واعتبار الباروني بأنه مجنون فبالتالي تسقط عنه التهمة ولايأخذ في الاعتبار حديثه، وكالعادة تستخدم الحكومة المادة 126 أحد المواد التي أريد بها تخويف وترهيب المجتمع وكل من يعلن الخروج من الاسلام أو يفتح ملف الحريات الدينية، ولكن هذه المرة استخدمت استراتيجية جديدة لأنه ليس بمقدورها مواصلة الاجراءات القانونية، فابتكرت الحكومة فكرة الجنون التي تهدف للتأثير على حياته العملية والعامة باعتبار أن المختل عقلياً تسقط عنه الاهلية.

أن هذه الكذبة التي اختلقتها الحكومة لكي تصد بها الباب امام الباروني باعتبار أنه قد يتخوف من مصيره ومن ما ترتب عن قرار الطبيب النفسي الذي له تأثير على مستقبله، ولكن الباروني قاوم كل ذلك بل ذهب الى ابعد من ذلك ورفض قرار المحكمة، وأصدرت هيئة الدفاع بالانابة عنه بيان ترفض فيه قرار المحكمة مما يؤكد المضي قدماً نحو موقفه ومواجهة المصير المجهول الذي لم يوقفه من مواصلة مقاومة القوانين التي تنتهك حقوق الانسان وتوسع الانقسام داخل المجتمع السوداني.

وحسب بيان هيئة الدفاع أن النيابة العامة في صباح 11 مايو 2017م طلبت محضر التحري، ومن ثم تم ترحيل الباروني لمقابلة المدعي العام بعد ظهر ذلك اليوم، وبعد عرضه علي طبيب نفسي داخل وزارة العدل تم شطب البلاغ بموجب تقرير الطبيب النفسي بدعوى الجنون، مع العلم بأن الجنون دفع يقدمه المتهم او ممثله القانوني ونحن في هيئة الدفاع لم ندفع بذلك وأيضا لم يتقدم المتهم بهذا الدفع، كما أن الجنون لا يتم التحقق منه الا بعد عرض المتهم علي لجنة طبية بمستشفي مختص بالأمراض العقلية والنفسية.

وقالت هيئة الدفاع أن موكلنا كان يسعي الي  إلغاء خانة الديانة في البطاقة الثبوية، وانه يعتبر  وجود المادة 126 انتهاكا لحرية الدين والعقيدة والفكر، وتسهم في ترسيخ الفرقة الدينية، وإننا نؤكد علي ان وجود المادة  126الردة  في القانون الجنائي السوداني ينتهك الحق في حرية الدين والعقيدة المنصوص عليها في المادة 38 من دستور السودان والإتفاقيات والمواثيق الدولية والإقليمية لحقوق الإنسان المصادق عليها من قبل حكومة السودان مثل العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب.

رغم علم الباروني أن الحديث عن تغيير الديانة قد يكلفه حياته، الإ أنه تخطى الخوف وقاوم بطريقة يجب أن نكون فخورين به وبموقفه حول قضية مهمة جداً وهي قضية المادة 126 التي تسلب احد اهم الحقوق الاساسية وهي حرية الفكر، الاعتقاد والضمير، وفي بلد ومجتمع تم اعادة هندسته بشكل جديد وتحوليه الى مجتمع الكتاب والسنة الذي بناه جماعة الاسلام السياسي الذي يؤسس للدولة المركزية، والرأي المنغلق ذو التوجه الديني الذي ينبذ الاختلاف ويشجع الوحدانية ويزرع الخوف الذي يضيق حرية التفكير والاعتقاد، مما ادى الى غياب لغة الحوار، الحرية الفردية، الابداع، العقلانية والانفتاح على الاخر، رغم أن بعض النصوص القرانية بها منطق يدعو الى التفكير والتدبير والتأمل واحتكام العقل والعلم.

حاولت الحكومة الخروج من المازق الذي ادخلها فيه الباروني عن طريق ايقاف الاجراءات القانونية واعتبار المتهم مختل عقلياً فبالتالي وبناءً على المادة 8 المسؤلية الجانئية البند العاشر من القانون الجنائي السوداني الذي ينص على (لايعد مرتكب جريمة الشخص الذي لا يكون وقت ارتكاب الفعل المكون للجريمة مدركاً لماهية أفعاله أو نتائجها أو قادراً على السيطرة عليها بسبب: أ- الجنون الدائم أو المؤقت أو العاهة العقلية، وبناءً على هذه المادة تم شطب البلاغ، برغم رفض المتهم وموكليه شطب البلاغ، وكشف هذا الحادث التناقض الواضح بين الدستور السوداني والقانون الجنائي السوداني.

مع العلم أن قرار الطبيب له أثر كبير جداً على مستقبل الباروني باعتباره مجنون ولا يعتمد كل ما يقوله، ويعتبر توظيفه غير قانوني باعتباره مجنون، لايمكن أن يرشح ولا يترشح في الانتخابات  ولا حتى له الحق في التصرف فيما يخصه بشكل حر أمام الجهات القانونية، وبهذه الطريقة الجبانة من الحكومة التي أرادت أن تقفل الطريق أمامه وامام كل من أراد أن يدافع عن الحق الانساني الذي كفله الدستور. فبالتالي ياتي السؤال حول هل الدفع بالجنون يحل الحكومة السودانية بمنع النشطاء والمواطنيين العاديين من ممارسة الحريات التي كفلها الدستور (دستورهم)؟

استخدمت الحكومة السودانية استراتيجية جبانة جداً بانسداد كل الطرق أمام الباروني والنشطاء الحقوقيين لقمع الحريات وقفل ملف الحريات لكل من يحاول أن يواصل في ما بدأه الباروني، بل ووضعت الباروني ضمن قائمة المجانين وهذا له عواقب قانونية واجتماعية كما اوضحت، وبكل بساطة أرادت أن تقول له أنت باتخاذك لهذه الخطوة خرجت خارج اللعبة، ولم يكن لك مستقبل في العمل المدني والسياسي باعتبارك مجنون.

وترجع دوافع الحكومة السودانية حول ايقاف الاجراءات القانونية وتقديم الباروني للطبيب النفسي وأخلاء سبيله على الفور بحجة أنه مريض نفسياً هو الخروج من هذا المازق وعدم الخوض في قضايا لها أثر كبير في مصداقية الحكومة السودانية أمام المجتمع الدولي من جانب والحكومة الامريكية من جانب آخر، وبالاخص بعد أن أعلنت الادارة الامريكية رغبتها في رفع العقوبات الاقتصادية والتجارية عن السودان مقابل إستيفاء الحكومة السودانية للشروط التي وضعتها الادارة الامريكية، وحسب بيان الادارة الامريكية السابقة أنها على استعداد لرفع العقوبات حسب الجدولة الزمنية التي يحتمل أن تبدأ بعد سته اشهر من تاريخ صدور قرار الرئيس السابق أوباما، وحسب الادارة الامريكية أن هذه الفترة تعتبر كافية لتشجيع الحكومة السودانية حتى تبرهن جديتها ورغبتها في المضي قدما نحو تحسيين أوضاع حقوق الانسان ووقف الحرب وغيره من الشروط مقابل رفع العقوبات ورفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للارهاب، فبالتالي مثل هذه الحادثة قد تعيق عملية رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للارهاب وبالاضافة الى اعاقة رفع العقوبات الاقتصادية والتجارية التي أعلنها رئيس الولايات الامريكية بيل كلنتون منذ 1997م وبموجبه تم تجميد الأوصول المالية السودانية، وايضاً في 2006 وضع الرئيس السابق جورج بوش السودان ضمن قائمة الدول الراعية للارهاب.

ومن جانب آخر تعلم الحكومة السودانية أن أحد اهم شروط رفع العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الادارة الامريكية هي قضية الحريات، فبالتالي هي ليست بحوجه للدخول في مأزق قد يكلفها أجهاض مجهود قامت به من سنين وصرفت فيه كميات كبيرة من الاموال وتعاونت وتخلت عن أيران التي كانت تقدم لها الدعم المالي والتدريب والمعدات العسكرية بل واغلقت سفارتها في الخرطوم مقابل اقناع الادارة الامريكية والسعودية بأنها على استعداد تام للتعاون في قضايا كثيرة وبالمقابل ترفع الحكومة الامريكية العقوبات واسم السودان من قائمة الدول الراعية للارهاب.

تعتبر خطوة الباروني هي بداية جديدة لمواصلة المقاومة ضد القوانين التي تقييد وتصادر الحريات التي كفلها الدستور والمواثيق والمعاهدات الدولية والاقليمية، واتمنى أن تكون بداية لمبادرة منظمات المجتمع المدني والسياسي للالتفاف حول قضية الباروني والتشجيع نحو خوض حملات مناصرة ومناشدة وتوقيع عريضة للمجتمع الدولي والاقليمي للضغط على الحكومة السودانية لتنفيذ ميثاق الحقوق المدنية والسياسية، وتغيير القوانين التي تقييد وتصادر الحريات الاساسية التي كفلها الدستور السوداني.